بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كانت هذه القصيدة من إحدى القصائد الرثائية التي أعجبتني ، وإن كنت لا أحب غرض الرثاء ؛ لأنه قد يظهر تفجعاً مصطنعاً ، أو يظهر محاسن المرء ويبالغ فيه لدرجة الكمال! ، أما هذه القصيدة فحوت بجانب الرثاء : الوصف بل وأجاد في الوصف وبلغ به مرتبة الإبداع .
هذه القصيدة قالها: أبو الحسن الأنباري ، أشتهر بوعظه ، ولم يقل الشعر إلا قليلاً ولم يطل إلا في هذه القصيدة والتي حازت على رضا الناس وإعجابهم .
وكانت قصة هذه القصيدة تعود إلى حرب قد جرت أحداثها بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة وقد كان ابن البقية وزيراً لعضد الدولة وقد ذهب إلى عز الدولة و سلمه إلى عضد الدولة باعتباره خائناً ، وقد أورد العداس في كتابه : نظرات في المناسبات أن ابن البقية قد ذهب لإجراء الصلح بين عز الدولة وعضد الدولة ، إلا أن عز الدولة قد ثار وغضب كون مكانته ستهتز ويظهر ضعفه ، فطرد ابن البقية وأرسل واشياً لينقل الأخبار لبلاط عضد الدولة والذي غضب أشد الغضب وطلب ابن البقية وحكم عليه بالخيانة ، فطرحه في ساحة أمام قصره واستدعى الفيلة فداسوه حتى الموت، وكان قد وصل عمره إلى الخمسين. ثم صلبه على باب بيته " أي بيت ابن البقية" والذي كان مجاوراً لقصر عضد الدولة ، ورأوه الناس وأصابتهم الحسرة لما أصابه، وذلك لما كان عليه ابن البقية من حب للناس ومساعدتهم ، وتقديم الخدمة لهم ، وقضاء حوائجهم، وأظهر كثير من الشعراء تفجعهم ورثوه بقصائد لم يحفظ التاريخ إلا قليل منها ، لما كانت عليه من الضعف وإظهار التفجع ومحاولة تعظيم الأمر ، إلا أن أبو الحسن الأنباري رأى ابن البقية مصلوباً وقد تحلق الناس حوله ، وقال قصيدته التي وصلت أقاصي البلاد خلال مدة وجيزة ، بل أن عضد الدولة سمعها من حراسه الذين نقلوا إليه الأبيات ، وأثبت عضد الدولة حزنه ومع ذلك لم ينزل ابن البقية ودفنه إلا بعدما مات عضد الدولة في نفس موضع الخشبة.
والأبيات هي :
علو في الحياة وفي الممات *** لحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا *** وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيباً *** وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء *** كمدهما إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن *** يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا *** عن الكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى *** بحفاظ وحراس ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً *** كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيد *** علاها في السنين الماضيات
وتلك فضيلة فيها تأس *** تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعا *** تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت *** فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي *** فعاد مطالباً لك بالترات
وصير دهرك الإحسان فيه *** إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشر سعداً، فلما *** مضيت تفرقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادي *** يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيام *** لفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي *** ونحت بها خلاف النائحات
ولكني أصبر عنك نفسي *** مخافة أن أعد من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى *** لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى *** برحمات غواد رائحات
وباختصار لو ننظر للأبيات نظرة معتبرة نرى أنه وصف ابن البقية بأوصاف تناسب حاله وهو مصلوب ، وقد الصفدي في كتابه : درر العلوم بأنها أحسن ما قيل في المصلوب.
( علو في الحياة وفي الممات*** لحق أنت إحدى المعجزات )
من أول بيت أظهر مكانة ابن البقية ولم يظهر التفجع ، بل بين رفعته في الحياة لأن منصبه وزير وعلو رفعته في الممات لأن كل الموتى تحت الأرض وهو أعلاها.
(كأن الناس حولك حين قاموا *** وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيباً *** وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء *** كمدهما إليهم بالهبات )
وأبدع في وصف الناس بتشبيه أبدع فيه ، فكأنهم حينما رأوه واقفاً تجمعوا حوله كما كانوا يفعلون أيام العطايا والهبات ، وهم نفس الوقت كأنك واقفاً فيهم خطيباً وهم ينظرون إليك باهتمامٍ ، ولأن المصلوب تفرد يداه فكأنه قد فتحها احتفاءً بهم وسعيد بلقائهم وهو في فرحه يمد إليهم بالعطايا والأموال بسعادة وفرح.
(ولما ضاق بطن الأرض عن أن *** يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا *** عن الكفان ثوب السافيات )
كما بين سبب صلبه وعدم دفنه بأن الأرض ضيقة لتحوي مثل هذا العظيم الشهم الكريم ، لذا فوضعوا القبر في السماء لأنها ممتدة وقد تضم علوك في الدنيا، وبدلاً من الأكفان كانت الثياب الخفيفة هي البديلة كناية عن تواضعه في الدنيا..
(لعظمك في النفوس تبيت ترعى *** بحفاظ وحراس ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً *** كذلك كنت أيام الحياة )
وقرب من التلميح لعضد الدولة ، وذكر بأنه من عظمته أصبحت الحراسات تتناوب عليه ، ومن كانت الحراسات تتناوب على قبره دليل على عظم شأنه ، وكأني به يشنع بعضد الدولة بأن قادة بني العباس لم تحرس قبورها مثل هذا الوزير وقد يكون أشهر من عضد الدولة لو مات! ، وقال : إن النار تشتعل ليلاً ، دلالة على كرمه أيام حياته، فإشعال النار كانت إحدى سمات العرب الكرماء ، وكما قالت الخنساء: كأنه علم في رأسه نار ..
عموماً القصيدة في إحدى وعشرين بيتاً أو أكثر بحسب الروايات ولكنها لا تتجاوز الثلاث والعشرين، والمجال لا يتسع لتحليها كلها ، ولعل الباب مفتوح لك عزيزي القارئ لأنه تشاركنا الموضوع برؤية فنية لأحد الأبيات ، أو عدم إعجاب بتحليلي لأبياتها الأولى ، وثق بأنني سعيد جداً بتفاعلك وحماسك