في جلسة حوار هادئة سألني أحدهم فقال: تزاحمت في رأسي الأعمال والأفكار والاهتمامات ، وقفت الحقوق والواجبات والمسئوليات تصرخ في وجهي تطالبني
بالعمل ، في عالم تكثر فيه الملهيات والمهلكات والمعوقات ، في عالم انتشرت فيه الثقافات والتوجهات ، في عالم فتحت فيه المنافذ الموصدة حتى أصبح الكون بيت
واحد لا قرية واحدة !!
قل لي : كيف أرتب أولوياتي المبعثرة ؟
تأملت سؤاله العميق محاولاً أنا الآخر أن أستجمع الجواب حيث بدأ سؤاله دقيقاً في وصف الواقع ، ولاشك أنني لا أملك أدوات تغيير الواقع ، ولكني أعتقد أنني
أملك أدوات تغيير النفس تجاه هذا الواقع الصعب ، لاعتقادي أن قوة النفس الداخلية وترتيبها وتنظيمها من الأعماق هو الذي يعظم الأمر أو يحقره ,,
قلت له :
أولاً : أعتقد أننا حين نصل مرحلة العجز والضعف التي وصفت بها نفسك تجاه ما ترى وما تسمع فيجب حينئذ أن نظهر التذلل لله تعالى والافتقار إليه ، لأنه ما
من معضلة ولا شائكة إلا عند الله المخرج منها ، فبقدر ما تفتقر بقدر ما تقترب ! وبقدر ما تستغني عنه معتمداً على علمك وقدراتك الضعيفة بقدر ما يتولى عنك
التوفيق والإيمان ، وثق تماماً أنك إذا بلغت أوج ضعفك فإن الفرج قريب .
ثانياً : لابد أن تعلم أن الأصل في الدنيا الحزن والكدر والمشقة والكبد ، وأن الفرح نعمة طارئة وعارضة ، يهبها الله تعالى من يشاء ومتى ما شاء ، ألم تسمع أو
تقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم :" الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " فهي سجن وحبس ، وهل تتخيل الحبس إلا ضيق وابتلاء وشدة ؟ وأنك مقهور بالنفس
والعقل والجوارح ، مضنون بالوقت وتصريفه .
ثالثاً : مشكلة البعض أنهم يريدون إدراك الأولويات والإحاطة بكل معاني الأشياء في العمر القصير من حياتهم ، وهذا مخالف لطبيعة بناء الإنسان !! ألم تر كيف
خلق الله تعالى آدم في مراحل ؟ وكيف تم خلق الإنسان من أطوار ؟ وكيف خلقت الدنيا في ستة أيام ؟ وكيف يلبث الجنين في بطن أمه خلقاً من بعد خلق في
ظلمات ثلاث ؟ وغير ذلك من طبيعة بناء الأشياء ..
إن الله تعالى أعطاك قدرات محدودة وأنت تريد إدراك اللامحدود ! فلا تكلف نفسك فوق قدراتها حتى لا تتهاوى أمام عظمة الخالق الذي تفرد بالإحاطة المطلقة
والإدراك المطلق " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "
رابعاً : تأمل كيف طولب الإنسان بأولوياته في بناء الإسلام والإيمان ثم تُرك بعد ذلك يجتهد في تحصيل المزيد مما ينفعه في دنياه وأخراه ، فالإسلام خمسة
أركان يبدأ بالشهادتين وينتهي بفريضة الحج , والإيمان يبدأ بالإيمان بالله وينتهي بالإيمان بالقضاء والقدر ، ثم الصعود إلى مرتبة الإحسان التي لا يصل إليها إلا
من رسخت قدمه في الإسلام والإيمان .. لاحظ أنك مطالب بالأولويات ، وهي التي عليها مدار السعادة والشقاوة ، فلا تلتفت إلى تحقيق أولويات أخرى حتى
تستكمل أو تزامن بناء الأصول ، وسوف تجد أن نفسك قد امتلأت طمأنينة وسكينة ورضاً في إدراك الأولويات لأنك أدركت أنك لا يمكن أن تدعوا الناس قبل أن
تحقق إقامة الصلاة ، ولا يمكن أن تؤلف كتاباً في العقيدة قبل أن تدرك معنى الإيمان ، ولا يمكن أن تبرز في العلم قبل أن تفهم أصول الإسلام وقواعده ... وهكذا ..
خامساً : يجب أن تعلم أن الناس يتفاوتون في درجات العلم كما يتفاوتون في درجات الفهم ، ويتفاوتون في طلب المصالح العليا كما يتفاوتون في طلب المصالح
الدنيا ، ومن رحمة الله بك أن جعل لك واعظاً من نفسك يبحث ويسأل من أين يبدأ وإلى أين ينتهي في علاقته مع الله تعالى وفي الواجبات المنوطة في حقه وفي
سؤالك عن أولوياتك المبعثرة كيف تهذبها وتنظمها ، مع أن الجم الغفير من الناس ليسوا في مثل اهتمامك وسؤالك ، بل هم في غفلة وتغييب عن مصالحهم !!
سادساً : أكثر ما يشغل الناس ويقتل من أوقاتهم هو الاهتمام بتوافه الأمور حتى تستنفذ وقته كله أو جله ، حتى غاب فقه الأولويات في حياتهم ، فترى احدهم
يقضي يومه في إصلاح جهازه المحمول أو هاتفه النقال أو يتجول الساعات الطويلة في شراء حذاء ، ثم يشكي ذهاب أيامه بلا فائدة ! فأين يتدارك ما يطمح إليه
وقد بعثر في التوافه عمره ..
ودعني صاحبي في آخر حديثي معه وتمتم بكلمات مع نفسه قبل أن يفارقني قائلاً لي : أدركت الطريق !